ما الفرق بين الخياطة الراقية والأزياء الجاهزة ؟

قد لا يرغب أحدٌ في الاعتراف بانخطاف ألق الخياطة الراقية في خدمة ما بدأ يتّخذ اليوم معالم "الأزياء الجاهزة الفاخرة"... أشبه بقصّة عشق يحرّكها مدٌّ وجزر هو تاريخ خياطة رداءات النخبة وخطّ أزياء الثورة الصناعيّة، تفصيلها في التقرير التالي.

 

ثورة خياطة

انبثقت الخياطة الراقية وصناعة الأزياء بالتزامن في عاصمة الأناقة باريس، لكنْ لم يظهر مفهومهما إلّا إبّان عصر الثورة الصناعيّة، في القرن الـ19. قبلهما كانت "الخياطة"، التي تقتصر على الخيّاطين المحترفين، الذين كان يوفّرون للطبقة المخمليّة تصاميم تحت الطلب محاكةً يدويّاً؛ أمّا ذوو الدخل المحدود، فكانوا يحيكون ثيابهم في منازلهم بواسطة ماكينة بعَجَل للغزل.

في أواخر القرن الـ18، ازدهرت صناعة النسيج، ومعها الإنتاج الشامل، طاغياً على الخياطة تحت الطلب وتلك المنزليّة، من حيث الوقت والمجهود والتكلفة. أمّا أولى مظاهر صناعة الأزياء Confection، فكانت مع إطلاق ماكينة الخياطة لصاحبها بارتيليمي تيمونييه Barthélémy Thimonnier بحدود العام 1830. على أنّ اتّجاهات الموضة بدأت تتجدّد بسرعة لم تعهدها من قبل، ووسائل توزيعها تتشعّب بأسعار زهيدة، من خلال متاجر كبرى كالشهيرة Galeries Lafayette، ومنشورات الـCatalogues، التي مهّدت سريعاً لنشوء ما يُعرف بمجلّات الموضة، نذكر من أبرزها Le Moniteur de la Mode في العام 1843، وكان الهدف منها تقليد تصاميم المجتمع المخمليّ.

في ردّة فعلٍ على تحرّر الأزياء والموضة، اتّجهت الطبقة الأرستقراطيّة إلى "الخياطة الراقية"، التي لا تختلف عن عمل الخيّاط المحترف إلّا بنقطتين هما: اختيار خامات وأقمشة أكثر فخامةً ونُدرةً، والصورة التي يمثّلها المصمّم Le Grand Couturier من حيث إبداعه، الذي يتعدّى مهنة الخيّاط الحرفيّة.

أمّا رائد الخياطة الراقية، فهو الإنكليزي تشارلز فريدريك وورث Charles Frederick Worth، الذي أبهر بلاط نابليون الثالث وقصور أوروبا بابتكاراته الاستثنائيّة الغنيّة بالتطريز والتفاصيل المعقّدة، التي لا ثانيَ لكلّ واحدة منها، والمخصّصة لتُلبَس مرّةً وحيدة في المناسبات. أخيراً، وليس آخراً، أسّس وورث، مطلِق تنّورة الكرينولين، ما تحوّل اليوم إلى نقابة La Chambre Syndicale de la Couture Parisienne، عام 1868، لإدارة وحماية شؤون الخياطة الراقية الباريسيّة.

 

جدليّة الأزياء "الجاهزة"

تخلّت خياطة الأزياء الجاهزة عن صفة "الصناعة"  Confectionبعد نهاية الحرب العالميّة الثانية، تحت مظلّة مجموعات أطلق عليها المصمّم جان-كلود ويل Jean-Claude Weill مصطلح Ready-to-Wear، بعد أن نقل التقنيّات الأميركيّة إلى عقر دار عاصمة الموضة الوحيدة آنذاك، باريس: ما لبث أن انتشر خطّ سلسلة التصاميم التي تتبع موديلاً معيّناً، بقياساتٍ نموذجيّة، مزوّدٌ كلّ منها ببطاقة تعريف هي نقيض مفهوم "تحت الطلب"، وما لبث أن أطلق جاك فاث Jacques Fath أوّل وآخر مجموعة له للأزياء الجاهزة قبل مماته عام 1954، وتلاه مارسيل روشا Marcel Rochas، الذي قلّد تصاميمه ذاتها... كلّ ذلك تحت راية "الأزياء الجاهزة الفاخرة"، الخاصّة بمصمّمي النقابة الباريسيّة، خطٌّ آثر التقدّم في ظلّ الخياطة الراقية على التطلّق منها، على خلاف خطّ "الأزياء الجاهزة الصناعيّة"، التي نذكر منها اليوم Zara وH&M

عام 1947، أعاد كريستيان ديور Christian Dior ترف الخياطة الراقية إلى الواجهة من خلال خطّ الـNew Look، الذي ما برح أن اجتاح أزياء الشارع. وقرابة العام 1954، حاله حال معاصريه الكبار، وفيما كانت دار "ديكتاتور الموضة"، كما وصفته الصحف الأميركيّة، تقدّم أفخر التصاميم المخاطة يدويّاً في فرنسا وأوروبا، غزت متاجر Dior في آسيا والولايات المتّحدة نُسخٌ من هذه التصاميم تحمل البطاقة ذاتها، إنّما بخامات أقلّ كلفةً وأسعارٍ أرخص ثلاث حتّى خمس مرّات. أمّا بيار كاردان Pierre Cardin، فمع تقديمه أوّل عرضٍ حيّ لمجموعة أزياء جاهزة، عام 1959، أثار فضيحةً تسبّبت بطرده مؤقّتاً من نقابة الخياطة الراقية الباريسيّة.

 

من الحصريّة إلى العالميّة

مع انتقال الموضة من أنامل المشاغل العريقة إلى آلات المصانع الضخمة، ومن البوتيكات الخاصّة إلى التوزيع على نطاقٍ واسع، تشبّثت الخياطة الراقية مرّةً أخرى بمكانتها عن طريق La Chambre Syndicale، التي رفضت، في ستّينيّات القرن المنصرم، احتضان مبدعي الأزياء الجاهزة تحت سقفها، من الذين لا يحملون صفة Le Grand Couturier.

بيد أنّ هذا الموقف كلّف قطب الأناقة الباريسيّ أثماناً باهظة، فيما بدأ خطّ الأزياء الجاهزة يكتسي بالإبداع ويغزو مدن العالم، مؤسّساً لثلاث عواصم إضافيّة للموضة هي نيويورك ولندن وميلانو. وإنْ حافظت باريس على مجدٍ من أمجاد عصرها الذهبيّ بُعيد انتهاء الحرب العالميّة الثانية، لَهُوَ من دون أدنى شكّ حصريّتها كعاصمة للخياطة الراقية دون سواها، يجتمع تحت فلكها موسميّاً صنّاع الموضة النخبويّون؛ وقد تقلّص عددهم من 106 دورٍ قبل الحرب الثانية إلى ما يقلّ اليوم عن الـ20 مشاركاً كلّ عام.

واقعٌ جرفته التبدّلات وشهدت عليه ثمانينيّات القرن الماضي عندما غامر أمثال تييري موغلر Thierry Mugler وجان-بول غوتييه  Jean-Paul Gaultierفي بحر الأزياء الجاهزة الفاخرة دون المرور عبر تأشيرة الخياطة الراقية، إنّما بتألّقٍ أوصلهم فيما بعد إلى برج الأخيرة العاجيّ.

 

كلمة الفصل: خيطٌ من حرير

على مرّ العقود الأخيرة، باتت أرباح الدور العالميّة الفاخرة ومصمّمي الخياطة الراقية تعتمد على نسبة الأنشطة المدرّة للدخل التي يؤمّنها قسم الأزياء الجاهزة الخاصّ بكلّ دار؛ على أنّ مجموعات الخياطة الراقية لم تَعُد سوى واجهة لحرفيّة مشاغل كلّ علامة ووسيلة للحفاظ على مكانتها وفرادة خطّها.    

لكنْ يبقى القول إنّ الموديلات Modèles التي تُفصَّل وفقاً للمقاسات التي تسود مجتمعٍ ما في زمنٍ معيّن، إلى جانب صيحات الموضة، تُحدّدها مصادر الخياطة الراقية وتتبعها دور ومصانع الأزياء الجاهزة. ورغم زيادة كلفة أجور اليد العاملة لدى الأولى في مقابل تراجع الطلب عليها في العقود الأخيرة، وبالتالي انحسار عدد دُورها يوماً بعد يوم، يظلّ خطّ الأزياء الجاهزة غير قادرٍ على التحليق إلّا تحت سقف معايير لا تؤمّنها إلّا مشاغل الخياطة الراقية. فهل مصير هذه المشاغل أيضاً آيلٌ إلى الزوال؟

بالفعل، يشهد القرن الحالي موجة انحسار للمحترفات المتخصّصة، وفي مسعىً لإنقاذ إرثها، باتت نخبة من هذه المشاغل، أحد أعمدة هذه الخياطة، في عهدة دار Chanel. وعليه التقت الدور العالميّة في عروض الخياطة الراقية لخريف وشتاء 2016-2017 حول مفهوم الحرفيّة اليدويّة كعنوانٍ للموسم القادم.

 

عصر الاعتزالات

لم يكن اعتزال جان-بول غوتييه Jean-Paul Gaultier وليد الساعة قبيل أيّامٍ من عرض آخر مجموعة له للأزياء الجاهزة، المخصّصة لموسم ربيع وصيف 2015. فهذا المبدع الاستعراضيّ، الذي، وإنْ دخل الموضة مباشرةً من باب الأزياء الجاهزة، أعاد نحت الكورسيه، وبعد قرنٍ ثار فيه ولاعبو الموضة الجدد على مدرسة إيف سان لوران في الخياطة الراقية في الستّينات، أبدع في تخطّي الحدود الفاصلة بين هذه الأخيرة وخطّ الأزياء الجاهزة في أوّل مجموعة خاصّة به لربيع وصيف 1976، ضمن فئة هذا الخطّ؛ فوُلدت إطلالة سترة الدرّاجة الناريّة الجلديّة فوق تنّورة الباليرينا Tutu.

بالعودة إلى مبتكر بدلة التوكسيدو الأنثويّة الشهيرة وصانع خزانة المرأة المعاصرة، بعد كوكو شانيل Coco Chanel، التي حرّرتها في عشرينات القرن الماضي من سطوة الأزياء المقيِّدة، أبلغ إيف سان لوران Yves Saint Laurent جمهور الخياطة الراقية، عام 2002، تحيّة وداعٍ مرغَمة، في عهدٍ بات استهلاكيّاً بامتياز، قال فيها شريكه في تأسيس داره بيار بيرجيه Pierre Bergé في إحدى مقابالاته الصحفيّة: "الخياطة الراقية ليست فنّاً، إنّما أُوجدت لترافق فنّاً في العيش لم يَعُد موجوداً"، وتعقيباً على كلمته، فنّ عيشٍ لطالما شكّل خلفيّةً لمعالم ثوب هذا الخطّ العريق.

أضف تعليقا
المزيد من عمل وتطوير